31.7 C
Khartoum
الإثنين, سبتمبر 1, 2025

همس الحروف .. رحلة العودة العكسية بين الألم و الأمل إلى أرض السكن .. د. الباقر عبد القيوم علي

في هذه الأيام ، الجميع يتحسسون ما لديهم من متاع ، و بعضهم قد حزم أحزمة متاعه سلفاً من أجل العودة إلى أرض السكينة و السكن ، الذي تم تهجير الناس منها قسرياُ تحت تقاطع ألسنة اللهب و دخان البارود ،  رحلة العودة العكسية بلا شك ليست مجرد رحلة في حساب المسافات ، فهي لمعظم الناس أكثر من انتقال جغرافي ، لانها تشكل رحلة نفسية عميقة تتداخل فيها الذكريات مع الأحزان المريرة ، و الأحلام التي تطفو على سطح الذاكرة و تتخللها آهات دفينة ، فبعد عامين من التهجير تحت تهديد آلة السلاح ، تصبح العودة إلى أرض السكن ليست مجرد خطوة في مشوار العودة ، بل هي معركة أخرى مع الزمن ، و أخرى مع الذكريات ، و أخرى أيضاً مع كل ما تم فقدانه من حصيلة الاعمار على المستوى المادي و المعنوي .

لا شك أن ما يعيشه الشعب اليوم في الشتات و النزوح هو أكثر من تعريفه بعبارة (ألم) ، و ذلك بسبب ما عانوه من إضطهاد و حرمان و فقدان ، و كذلك إن مشروع العودة إلى بيوتهم التي أُجبروا على تركها قسراً، بسبب ممارسات المليشيا تجاههم ، هي مزيج من الألم الذي يختلط بذكريات ممزقة ، و هذه الصورة تجسد حكايات شعب فقد جزءاً عظيما من تاريخه ، وجزءاً أعظم منه من وجوده و إنسانيته ، فالأرض التي كانت في يوماً ما ملاذاً للأمن و الآمان و السلام ، أصبحت اليوم شاهداً على مجزرة ، لم يراعى فيها شيخاً مسناً و لا إمرأة حبلى و لا طفل رضيع ، فكلهم عانوا من قسوة الحرب و الإضطهاد و المعاملة اللا إنسانية ، و تعرضوا لإنتهاكات جسدية و نفسية .

فالعودة اليوم لا تعني لنا مجرد إسترجاع للأماكن فقط ، بل هي  إسترجاع للذاكرة التي كانت شاهداً على صمود شعب لن تنكسر له إرادة في مواجهة العالم الخارجي الداعم للمليشيا و أعوانهم في الداخل ، أو في الفنادق حول العالم ، ففي كل خطوة على هذه الأرض الطاهرة ، نجد هناك ذكرى لشخصيات عظيمة ، نساءً ورجالاً و اطفالاً حملوا على عاتقهم تضحيات كبيرة ، فهؤلاء لا يعتبرون فقط ضحايا حرب ، بل هم صناع صمود و بقاء ، و من بين تلك التضحيات ، كانت النساء هن الأكثر عرضةً للإنتهاكات ، فقد دفعن الفاتورة العظمى لهذه الحرب ، و رغم ما خلفته الحرب من  جراحات جسدية و نفسية فقد كنّ جنباً إلى جنب مع الرجال ، لا يقتصر دورهن على الحماية والبقاء ، بل تعدى ذلك ليصل إلى كفاحهن على الجبهات المختلفة ، سواء كانت في ميادين القتال أو في تفاصيل الحياة اليومية ، فلقد تحملن فوق طاقاتهن .

ما يجعل أرض السكن هي الأكثر قداسة ، هو إرتوائها بدماء المخلصين من أبنائنا ، الذين دفعوا الثمن باهظاً من أجل وطنهم و حرية شعبهم ، و أرضهم التي كانت تشهد قسوة الحرب من أجل الحرية و الكرامة .

لقد باتت العودة للمدن و القرى ، التي أفرغت من سكانها  تجسد قصة جديدة من الأمل المتجدد ، و أن الإصرار على العودة رغم الصعوبات المعلومة لكل الناس هو أمنية ، على الرغم من أن أضرار الدانات التي يمكن يتعرض لها أي مواطن في أي زمان و في أي مكان  ،  يظل رسوخ الإيمان و الأمل و العزيمة عند كل فرد ، فكل شبر على هذه الأرض هو شهادة حية على قوة الشعب و صموده في مواجهة أوباش المليشيا و من شايعهم ، فمن المؤكد أن هذه الحرب قد عبثت في التفاصيل و بعثرتها ، و دمرت الأماكن ، و لكن لا و لم تستطع أن تمحو من ذاكرة الشعب عزيمته وإرادته في العودة إلى أراضيه مهما كانت النتائج .

العودة الطوعية إلى السكن ، و مكان الذكريات و السكينة ، هي بمثابة إعادة بناء لذاتنا ، و هي النهوض من جديد بعد أن هزمتنا الأحداث ، و معظم ما حدث لنا كان من جراء التقدير الخاطيء من بعض قادتنا ، و  أخفق في حقنا المحللون و العسكريون في إعطائنا قيد زمني غير حقيقي لنهاية الحرب حينما بدأت ، و بعد ذلك كان الشتات مصيرتا بدون رؤية أو روية ، إنها رحلة شائكة تداخلت فيها الأحزان بالآمال ، و لكنها في النهاية عكست الأمل المتجدد في الحياة بعد أن بدأنا في الرحيل العكسي ، و كان الإيمان بالقدر و الصمود هما السبيلان الوحيدان  للانتصار ، و يجب أن يعلم الخارج  بأجندة المختلفة ، قبل أن يعلم الداخل المتعاون ، بأن الشعب لن يهزمه كائن من كان بإذن الله تعالى .

مهما كانت أهوال الحرب و مصاعب العودة ، و خطورة البقاء في أماكن ما زالت في مدى نيران العدو ، إلا أنها تبقى هي الخيار الأفضل من قسوة النزوح ، و الإهانة التي وقع تحت طائلتها الجزء الأكبر من هذا الشعب و عدم تقدير ظروفهم ، و ستظل هي الخيار الأول على الرغم من أنها محفوفة بالمخاطر ، و لكن الارض تظل محفورة في الذاكرة والوجدان .

ما وقع على هذا الشعب من ظلم فإن الله شاهد عليه ، فهو يسمع و يرى ، و لا شك أن الحساب آت لا محال ، و عند الله تلتقي الخصوم ، و أن كل ما يحدث في هذه الدنيا من مآسي لن يمر مرور الكرام ، فالشعوب التي تواجه الظلم ، وتدافع عن حقوقها ، وتضحي بكل ما تملك ، هي بلا شك شعوب عظيمة ، لأنها سطرت التاريخ بدماء أبنائها ، و بقلوبهم التي لا تعرف اليأس مهما كانت الصعاب ، و نصر من الله و فتح قريب و بشر المؤمنين .

أخبار اليوم
اخبار تهمك أيضا